القائمة الرئيسية

الصفحات

أخبار

قصة سلمة بن الأكوع رضي الله عنه


قصة سلمة بن الأكوع رضي الله عنه 








أوتي سلمة بن الأكوع رضي الله عنه بسطة في الجسم، فكان أيداً شديداً، ربما أغار علي الجيش، فهزمه وحده، وكان عداء لا يسبق شداً فهو متوافر القوة، متناسق الجسم، واسع الخطو.

وكان له خبر عاجب يوم الحديبية، حينما كانت الرسل تختلف بين  رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وأهل مكة تهيئ للصلح الذي أزمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أن يعقده معهم، فلما كانت قائلة النهار ذهب سلمة إلي شجرة يستظل بظلها، فكسح شوكها، والتقط ما تناثر منها، وهيأ لنفسه مقيلاً اضطجع فيه عند  أصلها،  فجاء أربعة من المشركين من أهل مكة، فعلقوا سلاحهم علي الشجرة، وجلسوا يتحدثون، ويقعون في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولقد كان أهون علي سلمة أن يسمع سب أبيه وأمه من أن يسمعهم يقعون في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فآذاه ذلك غاية الأذى، فترك الشجرة لهم، وتحول إلي شجرة أخرى، ليبعد مسامعه عن وقيعة أولئك المشركين في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فبينا هو كذلك إذ سمع صارخاً ينادي : يا للمهاجرين ... قتل ابن زنيم، فظن سلمة أن المشركين نقضوا مسمعي الصلح، فاخترط سيفه ثم شد علي أولئك الأربعة وهم رقود، فأخذ أسلحتهم فجمعها في يده،  ثم قال لهم :و الذي أكرم وجه محمد، لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربته بالسيف. ثم جاء بهم يسوقهم إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم جاء عمه عامر بتسعين من المشركين حاولوا مناوشة المسلمين يسوقهم إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنظر إليهم  رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ثم قال : " دعوهم يكون لهم بدء الفجور وثناه". أي : يكون لهم أول الغدر وآخره ... ثم عفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصرفهم 



 *** إن في هذه القصة دلالات مهمة منها :-

*1- لا نعلم أحداً أشد حباً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  من أصحابه الذين آمنوا به،  واستنارت أعينهم برؤية محياه، وتعطرت أسماعهم بسماع  حديثه، وصحبوه في أحوال حياته، وتقلبات أموره، فاستكن حبه شغاف قلوبهم، وخالط لحمهم ودمهم  وعصبهم، فيا لله لسلمة رضي الله عنه، وهو يسمع مسبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  من رهط المشركين يشاركونه ظل الشجرة التي يقبل تحتها، فكم قاسى حينئذ من الألم النفسي،

وكم  تدفقت في دمائه زخات الحنق والغضب مما سمع، ولكنه كظم غيظه، وسيطر علي عواطفه، ولم يفرط  منه أي تصرف انفعالي، مع أنه كان في عنفوان شبابه، وفي العشرين من عمره، لقد ترك لهم الظل الذي هيأه لنفسه وتنحى عنهم بعيداً ؛  ليكون بمنأىً عن هذا الإيذاء  الذي لا يستطيع احتماله، ولم يمنعه أن ينفذ غضبه، ويشفي غيظ قلبه ضعف ولا عجز، فقد كان الشجاع قلباً القوي بدناً، السريع عدواً، ولكنه تعامل مع مشاعره بانضباط كامل، بعيداً عن أي تصرف يمكن أن يتداعى إلي تطورات غير محسوبة، وتحمل الألم النفسي  باصطباب جميل وبصيرة نافذة، وحتى عندما سمع الصاروخ ينادي بما يدل عل  غدر أو مقتلة لم يبادر إلي قتل هؤلاء، مع أن الفرصة كانت له مواتية؛ فقد علقوا أسلحتهم، فهم عزل، ورقدوا بغير تهيئ أو احتراز، ولكنه اكتفى بسوقهم إلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ليكون التصرف من المرجعية العامة للمسلمين.

إن سلمة رضي الله عنه يقدم للأمة من خلال هذا الموقف درساً بليغاً في الانضباط وقيادة العواطف، والسيطرة علي مشاعر الانفعال،  وعدم الاندفاع لردة فعل غير محسوبة أو تصرف غير رشيد، رغم قوة المؤثر وشدة الاستثارة.

*2- كما يلفتنا التعالي الأخلاقي الذي تعامل به النبي  صلى الله عليه وآله وسلم  مع هؤلاء الذين وقعوا فيه بالمسبة والتنقض، ومع التسعين الذين جيء بهم إليه وهم يحاولون مناوشة المسلمين، ومع ذلك عفا عن الجميع، وتركهم يبوؤن بأول الغدر وآخره، وكان عفواً نبوياً كريماً؛ حيث لم يصدر منه  صلى الله عليه وآله وسلم لهؤلاء توبيخ أو ملومة، وإنما هو الخلق العظيم والصفح الجميل.

لقد كان أمام النبي  صلى الله عليه وآله وسلم  هدف كبير واضح، وهو أن يتم الصلح بينه وبين أهل مكة، ولذلك لم يسمح لهذه الاستفزازات المتكررة من رعاع المشركين أن تعرقل مساعيه، أو تحرف وجهته عن هدفه، فكان أقوى من هذه الاستثارة، فحجمها بحجمها الطبيعي ضمن الحدث الذي يعايشه، والهدف الذي يصمد إليه، ولذا انتهى الأمر إلي ما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتم الصلح، وكتبت الصحيفة، وحصل بذلك الفتح المبين، وعاد  صلى الله عليه وآله وسلم  إلي المدينة وآيات الله تتنزل عليه : (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ....) {الفتح : 1} .

تعليقات